الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أريد به المفعول هنا أي: أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب. قيل: وبما ذكر سميت الآلة المعروفة، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة، استعيرت لعذاب أدون من غيره، وهو ما اختارهُ الزمخشري حيث قال: وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعذّ لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.وقيل: هو من قبيل: لجين الماء، أي: عذاباً كالسوط في شدته، وهو ما يقتضيه كلام الطبري، حيث زعم أن السوط مَثل لشدة العذاب.قال الشهاب: وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة، كالإذاقة. يقال: صبّ عليه السوط، وقنّعهُ به وغشّاهـ. وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره.{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمرصاد} أي: لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد.والمرصاد اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد- جمع راصد- أو صيغة مبالغة. كمطعام ومطعان. فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية، شبه كونه تعالى حافظاً لأعمال العباد، مترقباً لها ومجازيا علي نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه أحد بحال من قعد على الطريق مترصداً لمن يسلكها، ليأخذ فيوقع به ما يريد. ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.ثم أشار إلى غفلة الْإِنْسَاْن في حالي غناه وفقره، ونعى عليه شأنه فيهما، بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب، بقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه} أي: بالغنى واليسار {فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي: فضّلني، لما لي عندهُ من الكرامة.{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيقه عليه وقتره، فلم يكثر مالهُ ولم يوسع عليه {فَيَقول رَبِّي أَهَانَنِ} أي: أذلني بالفقر؛ وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين، فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه، وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. ففي كل ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب، ونظير الآية، آية:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وآية: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55- 56] وآية: {إِنَّ الْإِنسَانَ خلق هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22].{كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ على طَعَامِ الْمسكينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكلا لما وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حبًّا جَمّاً} [17- 20]وقوله تعالى: {كَلَّا} ردع عن قولية في حاليه، أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء، والإهانة في المنع، بل لطلب الشكر، وهو صرف النعم إلى ما خلقت له، وإعطاء المال لذويه، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه، كما قال: {بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} وهو من فقد كافله ومربيه، فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته، صوناً إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته. ومثلهُ التحاضّ على مواساة البؤساء، وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه، كما قال: {وَلَا تَحَاضُّونَ على طَعَامِ الْمسكينِ} أي: لا يحض بعضكم بعضاً عليه ولا يتواصى به.قال الإمام: وإنما ذكر التحاض على الطعام، ولم يكتف بالإطعام فيقول: لم تطعموا المسكين؛ ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التزام كلٍّ لما يأمر به، وابتعاده عما ينهى عنه.لطيفة:قال القاشاني: في دلالة قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَاْن}:أي: الْإِنْسَاْن يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان، لحديث: «الإيمان نصفان نصف صبر، ونصف شكر» لأن الله تعالى إما يبتليه بالنعم والرخاء، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه. ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول: أن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده، ويترفهُ في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول: إن الله أهانني، فربما كان ذلك إكراماً له بأن لا يشغلهُ بالنعمة عن المنعم، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق، كما أن الأول ربما كان استدراجاً منه. انتهى.{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكلا لَّمّاً} قال ابن جرير: أي: تأكلون الميراث أكلا شديداً، لا تتركون منه شيئاً. من قولهم: لممت ما على الخوان أجمعُ فأنا ألمهُ لماًَّ، إذا: أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.قال ابن زيد: كانوا لا يورثّون النساء ولا يورّثون الصغار.وقرأ: {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكتاب فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127]، أي: لا تورثوهن أيضًا.وقال بكر بن عبد الله: اللمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وغيره.{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حبًّا جَمّاً} أي: جمعه وكنزه، حبًّا كثيراً شديداً.{كَلَّا} ردع لهم عن ذلك، وإنكار لفعلهم، وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} أي: دكاً بعد دك حتى عادت هباءً منثوراً.قال الشهاب: ليس الثاني تأكيداً، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب، كقرأت النحو باباً باباً، وجاء القوم رجلاً رجلاً. والدك قريب من الدق، لفظاً ومعنى.{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} قال ابن كثير: أي: وجاء الرب، تبارك وتعالى، لفصل القضاء، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفاً صفوفاً.. وسبقه ابن جرير على ذلك وعضدهُ بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك «في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام، والملائكة بين يديه، وإشراق الأرض بنور ربها».ومذهبُ الخلف في ذلك معروف، من جعل الكلام على حذف مضاف، للتهويل، أي: جاء أمرهُ وقضاءهُ. أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه.قال الزمخشري: مثلت حاله في ذلك، بحال الملك إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم. انتهى.وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد. ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق، فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق، بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى، كما أنها لا تشبه الذوات، فكذلك صفاتُ لا تشبه الصفات؛ لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما، فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه على ما يليق به، كالعلم والقدرة، لا تمثيل ولا تعطيل.قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه: واعلم أن من المتأخرين من يقول: إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل؛ فإن قولهُ ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، و: إن الله معنا، ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك. فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد، فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث؛ فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار، معذوراً في هذا الإطلاق، فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية. انتهى.وقد بسط رحمه الله الكلام على ذلك في (الرسالة المدنية) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.وقال رحمه الله في بعض فتاويه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيل، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا، أنا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب.والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه، أن القرآن مشتمل على المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزيّ، وأبي الفضل التميميّ، وابن حامد، فيما أظن، وغيرهم، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز؛ وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز؛ فقابلوا الضلال والفساد، بحسم الموادّ. وخيار الأمور التوسط والاقتصاد. انتهى.{وَجِيءَ يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي: أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيرهُ إليها. فمجيئها متجوز به عن إظهارها، كما صرح به آية {وَبرزت الجحيم لِمَن يَرَى} [النازعات: 39]، {يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَاْن} تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال {وَأَنَّى لَهُ الذكرى} أي: منفعتها، فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد، كما فسره بقوله تعالى: {يَقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لحياتي} أي: أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه، فاللام للتعليل، أو: قدمت وقت حياتي، فاللام بمعنى وقت، والحياة هي التي في الدنيا.{فَيومئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عذابهُ أحد} أي: لا يعذب كعذاب الله، أحد في الدنيا.{وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحد} أي: لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وقرئ {يعذّب} و{يوثق} على بناء المجهول.قال السمين: وعذاب ووثاق في الآية، واقعان موقع تعذيب وإيثاق، والمعنى: لا يعذب أحد تعذيباً مثل تعذيب الله هذا الكافر، ولا يوثق أحد إيثاقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال؛ فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء.ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحاً، في مقابلة من تقدم، بقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة}أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشية من الاضطراب.{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي: وعده وثوابه.{راضية مرضية} أي: {راضية} بما أوتيت، {مرضية} عند ربها.{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي: في زمرتهم، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.{وَادْخُلِي جنتي} أي: معهم. وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.ومن غرائب المأثور هنا تأويل النفس بالروح، والرب بصاحبها، أي: ارجعي إلى جسد صاحبك إيذاناً بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد، وأن لها مقرا قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت. والمسألة من الغوامض بل من الغيوب. وبمعرفة نظائر التنزيل، يظهر بعدُ هذا التأويل. اهـ.
|